بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آلهوصحبه ومن والاه. أما بعد
فما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل، ولوتفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل، والفكر مرآة تريكحسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورثالحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل. قال أبو سليمان الداراني: " إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري علىشئ إلا رأيت لله فيه نعمة ولى فيه عبرة".. ولما سئلت أم الدرداءعن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكر والاعتبار. وعن محمد بنكعب القرظى قال: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلتوالقارعة" لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهزالقرآن ليلتي هزا أو قال أنثره نثرا. وعن طاووس قال: "قالالحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك؟فقال: نعم من كان منطقه ذكرا ً وصمته فكرا ً ونظره عبرة فإنهمثلي".
والتفكر يكون في نعم الله وفي كل شئ إلا في ذات الله تعالي: ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوالسَّمِيعُ البَصِيرُ( (الشورى: 11).. وقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى على الاعتبار والتدبروالنظر والتفكر قال تعالي: ) يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِلَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَُ( (البقرة: 219) وقال: ) قُلْ هَلْيَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ( (الأنعام: 50) وقال: ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْمَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَالنَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( (الروم: 8)
وعن عطاء قال " دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيدبن عمير قد آن لك أن تزورنا، فقال أقول يا أمه كما قال الأول "زُر غِبًّا تزدد حبًّا"، قال فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قالابن عمير: أخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلي الله عليهوسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: ياعائشة ذريني أتعبد الليلة لربي قلت والله إني لأحب قربك وأحبما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بلحجره، قالت ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكي فلميزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكيقال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟قال: "أفلا أكون عبدا ً شكورا ً، لقد نزلت على الليلة آية، ويللمن قرأها ولم يتفكر فيها )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍلِّأُوْلِي الألْبَابِ( ( آل عمران: 190)..
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكرالله خاليا ً ففاضت عيناه " رواه البخاري ومسلم.
وعن حذيفة - رضى الله عنه - قال: صليت مع النبي صلى الله عليهوسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلتيصلى بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثمافتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بأية فيها تسبيح سبح،وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول: سبحانربى العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال: سمع الله لمنحمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربىالأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه " رواه مسلم. وعن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: قال لي رسول اللهصلى الله عليه وسلم: "أقرأ عليّ القرآن " قال: فقلت: يا رسولالله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيرى" فقرأت النساء حتى إذا بلغت ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّأمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا( " النساء:41" رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيتدموعه تسيل" رواه البخاري ومسلم.
والسنن والآثار كثيرة في هذا المعنى وكلها دالة على ما كان عليهالنبي صلى الله عليه وسلم من تفكر وتدبر.. فعن الحسن قال: تفكرساعة خير من قيام ليلة. وقيل: كان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكانيمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست معالناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر وطولالفكر دليل على طريق الجنة. وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال: فكرت في الدنياولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتىتدركها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظلمن ادكر.
وأنفع الفكر الفكر في الآخرة وفي آلاء الله ونعمه وأمره ونهيهوطرق العلم به وبأسمائه وصفاته، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبةوالمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستهاوفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلمافكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذلالوسع في اغتنام الوقت.
أما الفكر في الدنيا وفيما لا يعنى فهو باب كل شر، وكذلك الفكرفيما لم يكلف الفكر فيه، كالفكر في كيفية ذات الرب مما لا سبيلللعقول إلى إدراكه، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاًخسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. قال مغيث الأسود: زورواالقبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلىالمنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعِروا قلوبكم وأبدانكمذكر النار ومقامعها وأطباقها". والصيام من جملة الأسباب المعينة على التفكر، ومن هنا قال البعض: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عنالعبادة.
والإنسان بحاجة لأن يقف مع أول همه، فإن كان لله أمضاه وإن كانلغيره توقف، والروية في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة.. قال الشافعي: فكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تقدم. وكان ابنمسعود - رضى الله عنه - يقول لأصحابه: أنتم في زمان خيركمالمسارع في الأمر وسيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبتلكثرة الشبهات.
وبعد أن علمت قيمة التفكر وما ورد بشان ذلك من آيات وسنن وأثارحري بك أيها الغادي أن تقف ساعة وتتفكر، من أنت، ومن خلقك، وإلىأين المصير، أراحل أنت أم مقيم، وإذا كنت مرتحلاً، فإلى أين أإلىجنة أم إلى نار؟ فالحياة بغير الله سراب، يحسبه الظمآن ماء، حتىإذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريعالحساب.
تفكر في الموت والقبور والآخرة، كان الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: من لم يردعه ذكر الموت والقبور والآخرة، فلو تناطحت الجبالبين يديه لم يرتدع. تفكر.. فأنفاسك تعد، ورحالك تشد، وعاريتك ترد، والتراب من بعدذلك ينتظر الخد، وعلى أثر من سلف يمشى من خلف، وما عقبى الباقيغير اللحاق بالماضي، وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب ) كُلُّنَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْيَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَالْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّمَتَاعُ الْغُرُورِ ( " آل عمران: 185 ". جلس عمر بن عبد العزيز يوماً متفكراً متأملاً ثم قال: قبور خرقتالأكفان ومزقت الأبدان، ومصت الدم، وأكلت اللحم.. ترى ما صنعتبهم الديدان؟! محت الوجوه، وكسرت الفقار، وأبانت الأشلاء، ومزقتالأعضاء .. ترى أليس الليل والنهار عليهم سواء، أليس هم فيمدلهمة ظلماء، كم من ناعم وناعمة، أصبحت وجوههم بالية وأجسادهمعن أعناقهم نائية قد سالت الحدق على وجوههم دماً صديداً، ثم لميلبثوا والله إلا يسيراً، حتى عادت العظام رميماً.. ثم قال: ليتشعري كيف ستصبر على خشونة الثرى، وبأي خديك سيبدأ البلى؟!!
تفكر في أحوال المسلمين، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليسمنهم، واجعل الهموم هماً واحداً، هو هم الآخرة.. وقد يطول بكالعجب عندما ترى انشغالك بكرة القدم، أو بالسينما والمسرح، أوبالأغاني العربية والأجنبية، أو بمتابعة الموضات...... في الوقتالذي تجرى فيه المذابح الجماعية للمسلمين هنا وهناك، والكثرةمنهم لا تجد رصيفاً آمناً تسكنه، تفكر فربما تشكر النعمة التيتعيشها وتنتهي عن البطر، وربما تستحي عندما ترى تقصيرك وتفريطك،والحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، وربماتداركت قبل فوات الأوان، فأعداء الأمس هم أعداء اليوم وهم لايفرقون بين مسلم وآخر ) قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْأَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ( "آل عمران: 118"، وما صرنا كالأيتام على موائد اللئام إلا بسبب حب الدنياوكراهية الموت، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعلفقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانتالآخرة نيته جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنياوهى راغمة.
تفكر كيف نحقق معنى الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، فهذهمهمتك قبل غيرك، وأنت على ثغر من ثغور الإسلام فاحذر أن يؤتىالإسلام من قبلك، لن تعدم دعوات صالحات في جوف الليل، وسهامالليل لا تخطئ، عسى الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويوحد كلمتهمويجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم. لا تتنصل من تحمل المسئوليةفأنت مسؤول )فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْوَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ( "الأعراف:6" )لِيَسْأَلَالصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ( "الأحزاب:8".
تفكر في نفسك وفي عظيم نعمة الله عليك )وَفِي أَنفُسِكُمْأَفَلَا تُبْصِرُونَ( "الذاريات:21" وكفي بنعمة الإسلام نعمة،فهل أديت شكر هذه النعم؟ تزود بالعلم النافع وتابعه بعمل صالح، واحرص على تقوية معانيالعقيدة في نفسك فالحرب مع أعداء المسلمين حرب عقائدية، واعلمأنه لا سبيل لأن تكون من الطائفة الظاهرة الناجية المنصورة إلابان تكون على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلموصحابته الكرام، فهل تحققت بهذا المنهج الإيماني علماً وعملاًواعتقادا؟! لا ريب أنه إذا ذكرت أحوال السلف بيننا افتضحنا كلنا ولكن هذا لايمنع من أن نبدأ ونجاهد أنفسنا )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَالَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَالْمُحْسِنِينَ( "العنكبوت:69".. وكما قالوا مسيرة آلاف الأميالتبدأ بخطوة واحدة، وربنا يلوم على العجز فاستشعر أنه لا حول ولاقوة إلا بالله، وليكن سبيلك التخلية عن الرذائل قبل التحليةبالفضائل، واحذر أن تحدث أنت الثقب في قعر السفينة فهذا يساوىغرقها بجميع ركابها في قعر المحيط، فالمعاصي هلكة ودمار، ومعصيةالجيش أضر عليه من سيوف أعدائه.
التأمل في ملكوت الله
إن التفكر في ملكوت السموات والأرض من شانه أن يهدى الحيارى، ففيكل شئ له آية تدل على أنه الواحد .. تأمل كيف رفع السماء فسواها،وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءهاومرعاها. تأمل عجيب قدرة الله في خلقه، وكيف يسير الكون بنظام دقيق)لاالشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَااللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( "يس:40". وتأمل وتفكر في دعوة سيد الأولين والآخرين، فمعجزاته كثيرة طبيةوفلكية، وحكمية وبلاغية..... وأعظمها معجزة القرآن الكريم.. كلشئ يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم، أخلاقه، أمته، الأخبارالغيبية، الدعاء المستجاب، ما هو موجود بأيدي أهل الكتاب )أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْهُو إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(. تدبر ذلك تزدد إيماناً ويقيناًبعظمة هذا الدين، ولا تملك معه إلا أن تدعو وتقول: "رب توفنيمسلماً وألحقني بالصالحين...... اللهم اجعل صمتنا فكراً ونطقناًذكراً ونظرنا عبراً. وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اسيرة القلوب كبار الشخصيات
الدولة : مصر عدد المساهمات : 1316 الموقع : الارائك العمل/الترفيه : كتابت الاشعاار
منتديات الأرائك احترام قوانين المنتدي: 100 / 100
موضوع: رد: خطبة بعنوان ( التفكر والاعتبار ) الخميس 16 يونيو 2011, 9:05 pm
جومانه أمورة المنتدي
الدولة : مصر عدد المساهمات : 110 الموقع : الارائك الاسلامية طبعا العمل/الترفيه : لعب الكمبيوتر
منتديات الأرائك احترام قوانين المنتدي: 100 / 100
موضوع: رد: خطبة بعنوان ( التفكر والاعتبار ) الجمعة 17 يونيو 2011, 8:22 pm